المادة    
وإذا كان الغلاة الذين يرون أن مرتكب الكبيرة يكفر يقعون في الفسق والفجور والمعاصي، فما بالكم بالذين مذهبهم أن الإيمان هو ما في القلب؟
إن الإنسان إذا انحرف عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادة والاتباع والاستقامة فإنه يمكن أن يضل ضلالاً بعيداً، فلا يبالي الله عز وجل في أي واد هلك، وهذه هي مصيبة الغلو أو التقصير، فتعجب إذا وجدت بعض الخوارج الذين يقولون: لابد من الالتزام الحرفي الدقيق بكل ما أنزل الله، وبكل ما جاء في القرآن، وبكل ما جاء في السنة، ومن خالف الله تعالى في أمر واحد من أوامره فقد كفر، لكن الخوارج أنفسهم لم يسلموا من هذا، بل آل بهم الحال إلى أن يقول بعضهم: إن سورة يوسف ليست من القرآن، وهذا كفر..
والفرقة التي قالت هذا القول كفرت بلا شك، وخرجت من الدين، حيث أنكروا سورة يوسف؛ لأن فيها ذكر المرأة والعشق، فقالت: هذا لا يليق بكتاب الله، فانظروا إلى الغلو كيف يخرج صاحبه إلى الكفر والعياذ بالله، وإن كان في الأصل يريد تصحيح العقيدة، ويرى أنه على الحق أو يظهره، لكن ينقصه الاتباع، هذا في جانب الاعتقاد.
  1. مقولة المرجئة لا يعلم لها قائل معين

    إن القول المشهور للمرجئة أنه لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله، وسبق أن بينا أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: (لا يعلم لها قائل معين، ولم يصرحوا هم بذلك في كتبهم) وهذا من الإنصاف والعدل، ونحن مع شدة عداوتنا وبغضنا للإرجاء وردنا على المرجئة إلا أننا لا نظلمهم، فهذه العبارة ينقلها أهل الفرق ومنهم الأشعرية الذين هم مرجئة ويقولون: تقول المرجئة كذا، لكن لم نجد أحداً قال بها، ولا نعلم لها قائلاً معيناً، فنقول: إن هذه العبارة كما وردت لا نعلم لها قائلاً معيناً، ولا يوردها أحد في كتابه إلا ويذمها، والمرجئة وإن كانوا ينكرون ذلك كـالأشعرية فإنهم يأتون بهذه العبارة ويذمونها، فربما تكون أحياناً وهماً، وربما أن يكونوا ظنوا أن المرجئ يقول هذا، وأرادوا القول أن الذي يقول كقولهم ليس بمرجئ، ثم بعد ذلك أصبح هذا القول وكأنه قول حقيقي يوجد في الواقع من يعتقد ذلك أو يتكلم به، وهذا باطل لا شك فيه، هذه هي الأمور التي رأى الشيخ أنه لا ينبغي أن تقع وهي كما يلي:
    أولاً: لا يجوز وقوع العدوان والافتراق بسبب ذلك.
    ثانياً: الحذر من أن يكون الإرجاء عند الفقهاء ذريعة إلى بدع أهل الكلام المذموم.
    ثالثاً: أن يكون مؤدياً إلى ظهور الفسق والمعاصي.
  2. مثال موافقة المعتزلة للخوارج في مرتكب الكبيرة

    أما في جانب العمل فنأخذ مثالاً آخر، وهو الجاحظ المعروف بكتبه التي تملأ المكتبات، وقد كتبت عنه رسائل دكتوراه وماجستير، وعقدت ندوات أدبية عنه، وهو على مذهب المعتزلة ، ويقرر تكفير صاحب الكبيرة، وله رسالة يكفر فيها معاوية رضي الله تعالى عنه وعمرو بن العاص وأمثالهما، فهو على مذهب الخوارج الذين يكفرون الناس، والخوارج و المعتزلة يلتقون في الغلو في هذا الأمر، وإن كان المعتزلة قد يتورعون ولا يطلقون الكفر على مرتكب الكبيرة، بل يقولون هو في منزلة بين منزلتين، لكنهم يتفقون مع الخوارج على أنه خالد مخلد في النار، فهم وإن اختلفوا في الاسم فقد اتفقوا في الحكم، لكن بعضهم يصرح أن مرتكب الكبيرة كافر فعلاً مثل معاوية رضي الله تعالى عنه وغيره، ويسب أهل السنة والجماعة الذين لا يعتقدون تكفيره، فهذا الجاحظ كان فاسقاً ماجناً خليعاً في حياته، وكتبه تنطق بذلك، فلم يكن متمسكاً ولا مستقيماً على ما شرع الله، وهو الذي يقرر ويقعد ويؤصل أن الذي يرتكب الكبيرة يكون كافراً، وفيه من الكبائر ما فيه، ولو لم يكن فيه إلا ما حشا به كتبه -غير مسائل العقيدة الفاسدة- من أخبار الفجور والزنا والخمر وما أشبه ذلك دون تعقب وكأنه يقره.
    فالمقصود أنه إذا كان أهل الغلو والتشدد في التمسك والطاعة في نظرهم كـالخوارج و المعتزلة يقع منهم الانحلال، وتفشو المفاسد والمعاصي والذنوب فيهم، فكيف بمن يرى أن الإيمان هو ما في القلب فقط، فإن هذا يمكن أن يعمل أي شيء، فهو أجدر وأحرى وأولى أن يكون منه ذلك. ‏